الأمير الصغير (1943) هو كتاب أطفالٍ من تأليف ورسم الفرنسيّ أنطوان دو سانت إكزوبيري، وهو مثالٌ واحدٌ من عالمٍ أدبيٍ يسلّي الأطفال بظاهره، لكنّه قادرٌ في جوهره على مخاطبة أكثر عقول البالغين تنورّاً بعمقه وتعقيده. تُظهر هذه الرّواية القصيرة كيف يزخر أدب الأطفال بأفكارٍ تستحقّ التّحليل والتفكّر أثناء القراءة، وكيف أن أدب الطّفل قد يبطّن هذه الأفكار بطرقٍ أكثر دهاءً ومكراً من أدب البالغين الذي لا يواجه محدّداتٍ تذكر مقارنةً بأدب الطفل فيما يتعلّق بالتعبير عن هذه الموضوعات والأفكار. سأعرض باختصار قراءاتٍ لرواية الأمير الصغير في ضوء عددٍ من النظريات الأدبيّة، وأختم بقراءتي لها، وربّما يجد قرّاءٌ بالغون آخرون الشجاعة للحديث ملء مدوّناتهم ومراجعاتهم عن زياراتهم السرّية لكتب الأطفال في مواجهة نظرة البعض المغلوطة لها على أنّها لا تعني الكبار مطلقاً.
سانت إكزوبيري يكتب سيرته: نقد بيوجرافي
يمكن تقصّي آثار سيرة سانت إكزوبيري في الأمير الصغير، حيث تتحدّث الرواية عن طيّار تتحطّم طائرته في الصحراء، ويظهر له طفلٌ صغيرٌ من كوكب غريب يزور الأرض ويساعده في إيجاد الماء، ويقضي معه مدةً يروي له قصّة أسفاره بين كواكب غريبة فيها. يكتب سانت إكزوبيري في سيرته الذاتية رياح، رمال، ونجوم (1939) حادثةً مشابهةً وقعت له في صحراء ليبيا حينما كان يخدم كطيّارٍ حربيّ، إذ تحطّمت طائرته، وعانى إثر ذلك من هلوساتٍ جرّاء سراب الصحراء وحرّها، ثمّ أنقذه طفلٌ بدويٌّ هو وزميله بأن دلّهما لبئرٍ قبل أن يموتا من العطش. ويتشابه وصف الكاتب للحدث في كتابيه، حيث يكتب في سيرته عن الحادثة الحقيقيّة، ثم يعيد وصفها في روايته.
نجد إشاراتٍ أخرى لحياة الكاتب الحقيقيّة في عمله، مثل شخصيّة الوردة المستوحاة من زوجته كونسويلو دو سانت إكزوبيري، والتي صرّحت بذلك في كتابها حكاية الوردة: الشّغف الذي ألهم الأمير الصغير (2000). تكتب المترجمة إستر ألن في مقدمة النسخة الإنجليزيّة من الكتاب (2001) كيف كان سانت إكزوبيري يلقّب كونسويلو بالوردة، وتذكر كذلك الكثير من صفات كونسويلو التي تتشابه مع الشخصيّة في الرواية، مثل السعال اللا إرادي في منتصف المحادثات العاطفية. كما يصل البعض إلى موازاة هرب الأمير الصغير من كوكبه الموبوء بأشجار الباوباب مع هجرة الكاتب من فرنسا إلى نيويورك هرباً من الاحتلال النازي.
وقد تقصّدتُ ذكر هذه القراءة في ظلّ سيرة الكاتب الذاتية للتأكيد على قيمة الأعمال الأدبيّة المشابهة التي كتبها رجالٌ ونساءٌ شهدوا أهوال الحربين العالميتيّن، وسافروا في وسع العالم وجابهوا امتحاناته واضطراباته خارج مكتباتهم، ونجوا ليكتبوا لنا أعمالاً تلهمنا وتهدي خلاصة تجاربهم وحكمتهم للأطفال –والكبار- بأساليب تجذبهم وتبقى معهم مدى الحياة. أنطوان دو سانت إكزوبيري سافر العالم، ونجا من حروبٍ وتحطّمات طائراتٍ وتحدّياتٍ قلّة ٌهم من يتخطّونها دون أن يفقدوا عقولهم. وهو واحدٌ من كثيرين من كتّاب أدب الطفل الذين خاضوا تجارب قيّمة جعلت أعمالهم تنطوي على بصيرةٍ وحكمةٍ تعلّموها من هذه التجارب أمثال جي.آر.آر تولكين و سي.إس لويس اللذين شغلا مناصب أكاديمية مرموقة في كبرى جامعات العالم، وأثريا الكثير من حقول علوم اللغة و التاريخ والفلسفة بكتاباتهما، و أ.أ. ميلين الذي شهد الحرب العالميّة مثل سابقيه، ولويس كارول الذي كان له إنجازاتٌ إبداعيةٌ متعددةٌ بالإضافة إلى كونه بروفيسور في الرياضيات.
الأمير الصغير صديق البيئة: نقد بيئي
في أحد أبحاثه، يناقش كريستوفر جي لورتي، بروفيسور العلوم الحياتية في جامعة نيويورك، كيف ترسم رواية الأمير الصغير صورة للتعايش السليم مع البيئة التي تظهر لنا من خلال تعاملاته مع محيطه، و يؤكد لورتي على أهمية أدب الطفل في نشر الوعي البيئي، وكيف يمكن أن يلعب دوراً محورياً في نقل العلوم ووضعها في متناول العوام.
يتناول لورتي أيضاً وعي الأمير الصغير بحاجات كوكبه الأمّ و اعتنائه به و محاولته لإيجاد حلول لمشاكله. كما يعزي نقد الأمير الصغير للأشخاص الذين يقابلهم في رحلته وانشغالهم بالتفاهات إلى انفصالهم في حيواتهم عن بيئتهم المحيطة، ويؤكّد على ضرورة الارتباط بالطبيعة والالتزام بها، وغيرها من الحكم الموجودة في ما يتعلّمه الأمير الصغير من الثعلب.
هناك أمثلةٌ أخرى كثيرةٌ على أعمالٍ في أدب الأطفال قرّبت العلم لقرّائها، مثل أنا آلي لإسحاق أسيموف (1950) الذي يضع اللبنات الأساسيّة لفهم علم الروبوتات وسط إثارة الحبكة، و عالم صوفي لجوستاين جاردر الذي يفتح أبواب عالم التاريخ والفلسفة لقرّائه الصّغار، و أليس في بلاد العجائب الذي يزرع الفضول بشأن المنطق، وسلسلتا خرافات نارنيا و مواده المظلمة اللتان تشكّلان مناظرةً ملحميةً بين الإيمان والإلحاد تمهّد الطريق للثيولوجيا.
الأمير الصغير الرومانسي: نقد رومانسي
يتضح تأثير المدرسة الرومانسية والاحتفاء بأفكارها بطبيعة النصّ المنغمسة بالخيال، والذي يظهر بتصوير كواكب أخرى تقطنها الحياة، وبالحيوانات والنباتات الناطقة في القصّة، وبالطفل الصغير الوحيد الذي يعيش سالماً وحده في صحراء شاسعة، وغيرها من الحوادث الخياليّة. كما ينعكس ارتباط الأمير الصغير العميق بالطبيعة بتعلّقه بوردته، واستمتاعه بمشاهدة غروب الشمس. بالإضافة إلى ذلك يؤكّد الكتاب في جوهره على قوّة العاطفة والقلب من خلال درس الثعلب للأمير الصغير بأنّ المرء لا يرى الحقيقة إلّا بقلبه وأنّ الأشياء المهمّة حقّاً في الحياة غالباً ما لا تراها العين.
تتكرّر أيضاً مشاعر العزلة وصورة المنفى، وتتجلّى بكون القصّة كاملة تدور في قلب الصحراء، وبفكرة وجود كواكب بكبرها يعيش عليها أفرادٌ وحيدون. وهناك احتفالٌ واضحٌ بفكرة الطفل الداخلي وحكمته المخفيٌة يظهر في وصف الأمير الصغير ومكانته في القصّة كالشخصيّة الرئيسة. ويطغى تصوّر رومانسي لفكرة الموت يتّضح في اشتياق الأمير الصغير له وسلوكه تجاهه نهاية القصّة.
أميري الصغير: ردّ الجمهور
شخصيّاً، أرى الأمير الصغير تجسيداً للطفل الذي يسكن نفس المرء، ويُبعث كلّ حين ليُلْهِم إبداعاته وقراراته المصيريّة، أو يدفعه للقيام ببعض الأفعال الصغيرة الطيّبة، أو حتّى ليوسوس له بالرغبة بالهروب من كلّ شيءٍ يعرفه إلى عوالم غامضةٍ لا يعرفها، ثمّ ما يلبث أن يختفي مجدداً في عجلة الحياة وضوضائها. ويمكن رؤية ذلك في تذمّر الطيّار من انشغال البالغين بالأمور الهامّة التي لم تكن تعنيه عندما كان طفلاً، وكيف يتّهم الأمير الصغير الطيارَ بأنّه يتّحدّث كهؤلاء البالغين ويشعر بالاشمئزاز منه عندما يخبره بأنّه مشغولٌ بأمورٍ هامةٍ.
أمّا الوردة، أرى أنّها تجسّد الحياة وصراعنا مع مطالبها المتفاقمة وتقلّباتها، وتَساوي أهمّيّتها العظيمة وعدم أهمّيّتها على الإطلاق، أو الصراع بين الرغبة بالتهرّب منها، وثمّ العودة إليها دائماً، وحسّ المسؤوليّة تجاه الحفاظ عليها ورعايتها.
و بالنسبة للشخصيّات التي يقابلها الأمير الصغير في رحلته بين الكواكب، فأجد أنّ كلّاً منها تمثّل سمةً موجودةً في شخصيّة الطيّار ذاته. أراد الأمير أن يخبره عنها ليظهر له مدى بشاعتها ويحذّره من أن تسيطر عليه فيتحوّل كليّاً ليصبح مثلها، وذلك لأنّ كلّ قصّةٍ رواها الأمير للطيّار جاءت بعد فعلٍ أو قولٍ من الطيّار ذكّر الأمير بإحدى الشخصيّات.
الثعلب والأفعى يظلّان أقرب إلى اللغز. ربّما يكونان القطبين المتحاربين في النفس، الأمل و اليأس، النبيل و الحقير، أو الأصدقاء الحقيقيوّن والمزيّفون. وقد يكون الثعلب ومضةً من المستقبل؛ نسخةً أكبر سناً وأكثر حكمةً من النفس تحادث وترشد وتعلّم حكمة ً تختلف عن حكمة الطفل الداخلي، والتي توازي أهمّيتها أهمّية حكمة الطفل الداخلي لتحقيق اتّزان الطيّار الذي وقف في المنتصف بين الشخصيّتين. أمّا الأفعى قد تمثّل الركون إلى الحلول السهلة والمخرج الأقرب وإن كان ذلك ضدّ الصواب.
كأيّ عملٍ متعدّد الأبعاد وعابرٍ للأزمان، قد يعني كتاب الأمير الصغير كلّ شيء، أو لا شيء، أو قد يعني شيئاً الآن، و شيئاً آخر مختلفاً تماماً بعد عشر سنوات. لا يمكن إصدار حكمٍ مطلقٍ في ذلك الشأن، وقد يكون ذلك أفضل ما يميّزه! وبهذا الشكل، لا يختلف أدب الطفل عن أدب البالغين، ولا يقلّ عنه أهميةً أو تعقيداً. وإن كنت تنتظر حجّةً لقراءة أدب الطفل وتذوّقه والاستمتاع به، أو رخصةً للحديث عنه بين القرّاء أو الأكاديميين فربّما تتشجّع أخيراً بعد قراءة هذه المدونة.